تهذيب : الاقتصاد عاريا، لــ(تشارلز ويلان) ترجمة (زينب حسن البشاري)

 

  الاقتصاد عاريًا

  عرض طريف ومشوق للمفاهيم الاقتصادية

 
    تمهيد  
    إن علم الاقتصاد أكثر صعوبة من العلوم الطبيعية، لأنه من غير الممكن إخضاع الظواهر الاقتصادية للتجارب المعملية المحكمة، ولأن سلوك الأفراد لا يمكن التنبؤ به
  لذلك جذب الاقتصاد السلوكي -behavioral economics- وهو فرع كامل من فروع الاقتصاد انتباه الكثيرين، وذلك لأنه يربط بين أفكار علماء علم النفس ورجال الاقتصاد
  ولكننا ما زلنا عاجزين عن التنبؤ بسلوكيات الأفراد بأية درجة من الدقة ولكننا نعرف أن السلوك الفردي تحركه الدوافع كما نعرف أن الضوابط المنطقية تحكم الأنشطة الاقتصادية
  وأنه نادرا ما يجري التغاضي عن فرص المكسب الواضحة، وهي الفكرة الأساسية التي تقوم عليها نظرية أن أسواق الأوراق المالية فعالة بصورة كبيرة
 
    هل فهمت جيدا المشهد الأخير من فيلم -Trading places - عندما تعرض الأشرار للهزيمة في سوق العقود المستقبلية؟  
    إن الأسواق غير الخاضعة لضوابط وقوانين قد تؤدي إلى نتائج سلبية إلى حد بعيد
  ومثال على ذلك
  ولع الأمريكيين بالسيارات، فالمشكلة هي أننا لسنا مضطرين لتحمل كل تكلفة قيادتها
  صحيح أننا نشتري السيارة ونتحمل تكلفة الصيانة والتأمين والوقود ولكننا لسنا مضطرين لتحمل بعض التكاليف المهمة التي تنجم عن قيادة السيارات، مثل
  الملوثات التي تبعثها عوادم السيارات في الهواء وازدحام المرور الذي تسببه وإتلاف الطرق العامة والخطر الذي يواجه سائقي السيارات الأصغر حجما
  إن ما يسببه كل ذلك من تأثير يشبه قضاء ليلة في المدينة ببطاقة ائتمان والدك، أي ينطوي ذلك على القيام بالكثير من الأشياء التي ما كنا لنفعلها إذا كنا مضطرين لدفع الفاتورة كاملة
  فنحن نقود السيارات الضخمة ونتجنب النقل العام وننتقل للعيش في الضواحي البعيدة ثم نقود لمسافات بعيدة يوميا لنذهب إلى العمل
  لا يتلقى الأفراد فاتورة عن كل ما يسببونه من ضرر بالبيئة ولكن المجتمع هو الذي يتلقاها في صورة تلوث للهواء واحتباس حراري وزحف عمراني ولن نجد الحل لهذه المشكلة المتفاقمة عند أنصار حزب العمل الليبرالي ولكن يكمن الحل في
  رفع الضرائب المفروضة على الوقود ومبيعات السيارات
  فقط مع هذا النوع من الإجراءات ستعكس تكلفة قيادة السيارات - لا سيما سيارات اس يو في - التكلفة الاجتماعية الحقيقية لها
  وبالمثل تسهم وسائل النقل العام التي تدعمها الحكومة بسخاء في مكافأة من يستقلونها يوميا للذهاب إلى العمل نظير إسدائهم لنا خدمة بعدم قيادتهم للسيارات
 
    إن معظم الأفكار المهمة التي يقوم عليها علم الاقتصاد تستتر خلف مجموعة من الأغطية التي تنطوي على كثير من التعقيد والتي متى أزحناها عنها نجد هذه الأفكار بدهية في الأصل وهذا هو المقصود بالاقتصاد عاريا  
 

  الفصل الأول
  قوة الأسواق
  من يطعم باريس؟

 
    إنها يد آدم سميث الخفية التي كانت تمرر الكوكاكولا عبر سور برلين
  أما مندوبو شركة كوكاكولا فقد كان همهم الأكبر هو عملهم فقط
  إذ لم يكن لديهم بعد إنساني أثناء تمريرهم المشروبات إلى ألمانيا الشرقية بعد تحريرها
  ولم يشغلوا أنفسهم بالحديث عن مستقبل الشيوعية، بل كان همهم الأكبر هو العمل على توسيع سوقهم العالمي ، ورفع نسبة الأرباح، وإسعاد حملة الأسهم، وهذا هو جوهر الرأسمالية
  حيث لا يكافئ السوق إلا من يعمل من أجل تحقيق المصلحة
  سواء أكان ذلك في صورة تمرير زجاجات الكوكاكولا أم قضاء سنوات في التعليم أم زراعة حقل من الفول الصويا أم ابتكار جهاز راديو يعمل تحت المطر
  باختصار.. السوق يكافئ كل فرد يقدم عملا من شأنه أن يؤدي إلى مستوى معيشي مزدهر ومتطور لمعظم (وليس لجميع) أفراد المجتمع
 
   إن أمثالنا ممن تعودوا على اقتصاديات السوق ليس لديهم فهم كاف بشأن التخطيط الشيوعي المركزي  
    جون برنارد شو:
  إن الاقتصاد هو فن الاستفادة القصوى من الحياة
 
    ويبدأ علم الاقتصاد بفرضية مهمة وهي أن الأفراد يسعون لتحسين أحوالهم الاقتصادية قدر المستطاع
  وبعبارة أخرى .. يسعون لزيادة منفعتهم الشخصية التي تشبه في كونها مفهوم السعادة ولكن على نطاق أوسع
 
    ولا يهتم الاقتصاديون تحديدا بما يجلب لنا المنفعة بل يتفقون ببساطة على ان كلا منا لديه مفضلاته الشخصية  
    وهنا نطرح سؤالا سياسيا شائكا وهو
  هل من العدل أن يفرض الأثرياء مفضلاتهم على شعوب الدول النامية؟
  يرد الاقتصاديون .. إن هذا ليس من العدل .. مع أننا نفعل ذلك طوال الوقت.. بدليل أنني عندما أطالع في الصباح خبرا يقول .. إن القرويين في امريكا الجنوبية يقطعون أشجار الغابات البكر مدمرين بذلك النظام البيئي النادر - يكاد فنجان القهوة يسقط من يدي وتتملكني الدهشة والاشمئزاز .. ذلك لأنني لا أعيش ظروفهم فأطفالي لا يتضورون جوعا وغير مهددين بالموت بسبب الملاريا
 
   وبذلك استطاع علم الاقتصاد ان يجيب على أحد الأسئلة الفلسفية القديمة، وهو.. لماذا عبرت الدجاجة الطريق؟ والجواب ببساطة هو .. لأن ذلك زاد من منفعتها  
  إننا نحاول أن نزيد المنفعة وفقا للموارد التي تحت تصرفنا، أو كما يقول والدي .. نحاول ان نحصل على أكبر قدر من المتعة بالدولار الذي نملكه  
  الأشياء التي تمدنا بالمنفعة لا يجب أن تكون بالضرورة سلعا مادية فقد تكون أشياء معنوية  
  وكذلك مفهوم التكلفة، فهو أكثر ثراء من مجرد الدولارات والسنتات التي ننفقها أثناء الشراء بل هو أشمل من ذلك فالتكلفة الحقيقية لسلعة ما هي مقدار ما يجب أن تتنازل عنه من أشياء التي دائما تكون أكثر من النقود، لتحصل على تلك السلعة  
  قد تفسر لنا تلك الرؤية الواسعة للتكلفة بعض الظواهر الاجتماعية المهمة للغاية، التي من ضمنها انخفاض معدل المواليد في الدول الصناعية. فقد أصبح إنجاب طفل أمرا مكلفا أكثر مما كان عليه الوضع منذ خمسين عاما. وهذا ليس لأنه من المكلف تغذية وكساء فرد آخر صغير بالمنزل فقد انخفض هذا النوع من التكلفة نظرا لزيادة إنتاجنا من السلع الأساسية كالطعام والملبس. لكن التكلفة الأساسية لرعاية طفل في هذه الأيام هي تكلفة ضياع المكسب عندما يتوقف او يتخلف أحد الوالدين - وخاصة الأم - عن العمل لرعاية الطفل بالمنزل  
  ومع تطور الحياة وفي ظل الدولة الصناعية اختفت معظم المنافع الاقتصادية الناتجة عن تكوين عائلات كبيرة، فلم تعد هناك المزارع الكبيرة التي تحتاج لأيد عاملة كان يوفرها قديما إنجاب الأطفال والذين كانوا يدرون دخلا لأسرهم. أما اليوم فيكفيهم أن يتعلموا كيف يحضرون زجاجة الماء من الثلاجة  
  وهناك فرضية أخرى مهمة تشكل جزءا من جوهر كل علوم الاقتصاد وهي أن أي نشاط تجاري - مهما كان - يحاول زيادة أرباحه أي .. العائد بعد طرح تكلفة إنتاجه  
  أحد أهم ملامح اقتصاد السوق هو أنه يوجه موارده لأكثر الاستخدامات نفعا  
  تعتبر الأسعار مثل لوحات الإعلانات الكهربائية العملاقة التي تنير بالمعلومات المهمة  
  وتجتذب فرص الربح الشركات مثلما تجتذب الدماء أسماك القرش  
  وبالطبع ليس من السهل دخول كل الأسواق، ذلك أن الكثير من الأسواق لديه حواجز تمنع الشركات الجديدة من الدخول إلى مثل هذه الأسواق مهما كان حجم الأرباح التي ستجنيها تلك الشركات، وقد تكون هذه الحواجز مادية، أو طبيعية، أو قانونية تمنع من دخول سوق، وهناك حواجز أشد مكرا من ذلك  
  وفي غضون ذلك لا تقوم الشركات باختيار السلع والخدمات التي تقدمها فحسب بل تختار أيضا كيفية صناعتها  
  وفي النهاية، فإحدى طرق زيادة الأرباح هي تقليل تكلفة الإنتاج. وهذا قد يعني تشريد عشرين ألف عامل أو بناء مصنع في فيتنام بدلا من كولورادو  
  نعود إلى النقطة التي يلتقي فيها المنتج مع المستهلك، كم ستدفع مقابل ذلك الكلب الصغير المعروض في واجهة المحل؟ إن مقدمات علم الاقتصاد لديها إجابة سهلة للغاية تتمثل في .. سعر السوق ..أي مسألة العرض والطلب بأسرها سيستقر السعر عند النقطة التي يتساوى عندها تماما عدد الكلاب المعروضة للبيع مع عدد الكلاب التي يرغب الزبائن في شرائها  
  إن معظم الأسواق لا تبدو مشابهة لما نقرأ عنه في الكتب فلا يوجد سعر سوق للملابس مثلا التي يتغير سعرها كل دقيقة وفقا للعرض والطلب  
  ومن هنا تأتي طريقة التمييز السعري .. وهي ان تقوم الشركات ببيع نفس السلعة لمستهلكين مختلفين بأسعار مختلفة، وأوضح مثال على ذلك شركات الطيران والتفاوت في أسعار التذاكر لنفس الرحلة  
  الخلاصة ان المستهلكين يحاولون تحسين أحوالهم الاقتصادية قدر المستطاع وتحاول الشركات زيادة الأرباح. ومع السهولة التي يتسم بها هذان الأمران فإنهما يخبرانا عن الآلية التي يسير العالم وفقها  44
التوزيع إن اقتصاد السوق قوة فعالة لتحويل حياتنا للأفضل:
فالطريقة الوحيدة التي تجني بها أية شركة أرباحا هي توزيع السلع التي يريد المستهلك شراءها.
فالأرباح هي المحرك لأكثر أعمالنا قيمة حتى في مجالات مثل التعليم العالي والفنون والطب.
فكم من الزعماء قصد كوريا الشمالية لإجراء جراحة قلب مفتوح؟!

سوق بلا أخلاق ووسط كل هذا لا يهتم السوق بالأخلاقيات:
وليس المقصود هو أنه سوق مناف للقيم الأخلاقية، ولكنه بسهولة لا يهتم بها.
فالسوق يفرض أسعارا باهظة ثمنا للندرة التي ليست ذات علاقة وطيدة بالقيمة.
إن السوق لا يوفر السلع التي نحتاج إليها، بل يوفر سلعا نريد شراءها، وهذا فرق جوهري.
45
الأسعار يستخدم نظامنا الأسعار لتوزيع الموارد النادرة؛ نظرا لوجود كمية محدودة من كل شيء ذي قيمة عالية، فالوظيفة الأساسية لأي نظام اقتصادي هي تحديد من سيحصل على ماذا. وهذا يتحدد بالأسعار، فمن يحصل على كذا هو من يستطيع أن يدفع أكثر.

إن كلا من الرأسمالية والشيوعية تتحكم في توزيع السلع على الأفراد. نحن نفعل ذلك عن طريق الأسعار، والشيوعيون فعلوا ذلك بالانتظار في طابور. 46
حركة التصحيح نظرا لأننا نستخدم الأسعار لتوزيع السلع، فالكثير من الأسواق تصحح أخطاءها ذاتيا؛ فمثلا عندما تجتمع دول الأوبك للاتفاق على الإنتاج العالمي للنفط تبدأ أسعار النفظ والغاز في الارتفاع اولا، ثم يقل استهلاك الناس من هذه السلع مرتفعة السعر، ثم تزيد الدول خارج منظمة الاوبك من انتاجها مستغلة ارتفاع السعر حتى يؤول الامر إلى زيادة العرض عن الطلب فينخفض السعر كرة أخرى
السعر هو أساس المنافسة إذا استقرت الأسعار في نظام السوق، فسوف تجد الشركات الخاصة طريقا آخر للمنافسة: فإذا كان سعر السلعة ليس محددا من قبل الجهات القانونية فإن السعر يبقى هو الحد الأساسي للمنافسة لأن السعر هو أساس اهتمام المستهلك.
أما إذا كان سعر السلعة محددا جبريا كما هو الحال في محطات الوقود فإن موضع المنافسة يكون من خلال طرق أخرى كالاهتمام بنظافة سيارة العميل او نظافة حمامات المحطة المعدة لاستخدام العملاء او اي شيء اخر يميز شركة عن شركة
47
العولمة والاستغلال إن كل تعامل داخل السوق يعود بالمكسب على جميع الأطراف، حتى لو ظهر خلاف ذلك، كأن ترى ان العامل مستَغل من قبل المؤسسات الصناعية البغيضة، فما ألجأه إلى تلك المؤسسات هو ان اعداد المصانع ككل غير كافية، فلجأ لتلك المؤسسات لأنها أفضل له من غيرها من الخيارات، دعنا نقلص حجم التجارة الدولية كما يطالب معارضو العولمة ومن ثم نغلق المؤسسات الصناعية المستغِلة ، ولكن كيف سيجعل ذلك الأمر العمال في البلاد الفقيرة أفضل حالا؟ فهذا لا يخلق أي فرص عمل جديدة.
الطريقة الوحيدة كي تحسن من رخائهم الاجتماعي هي حصول العمال الذين تركوا العمل في تلك المؤسسات على وظائف جديدة أفضل. وهكذا
.
صحيح أن شركة نايك تدفع للعامل العادي في واحد من مصانعها الفيتنامية ما يعادل حوالي 600 دولار أمريكي سنويا، قد يكون هذا الرقم مثير للشفقة، إلا أنه ليس كذلك إذا عرفت أنه يساوي ضعف متوسط الدخل السنوي للعامل الفيتنامي العادي. فهذه المؤسسات البغيضة عرض من أعراض الفقر وليست هي السبب في الفقر.

48


وكما قال جون كيندي في عبارته الشهيرة:
الحياة ليست عدلا
.
كذلك الرأسمالية ليست عدلا في بعض ملامحها المهمة. أترى أنها نظام جيد؟


أستطيع القول بأن علاقة اقتصاد السوق بعلم الاقتصاد تشبه تماما علاقة الديمقراطية بالحكومة، فهي تمثل اختيارا جيدا وسط مجموعة من البدائل السيئة حتى وإن كانت بها أخطاء. فالأسواق تتفق مع وجهات نظرنا في الحرية الفردية

هناك توافق بين الأسواق وطبيعة البشر، ولذلك فهي تتمتع بالنجاح الواسع في حثنا على الاستفادة من إمكانياتنا. فأنا أكتب ذلك الكتاب لأنني أحب الكتابة. كما أكتبه لأني أؤمن أن علم الاقتصاد علم شيق للقراء. وأكتبه أيضا لأني أريد حقا شراء منزل صيفي في ولاية ويسكونسن. فنحن نعمل بجدية أكبر عندما نستفيد بطريقة مباشرة من عملنا. وهذا العمل الجاد يؤدي في معظم الأحيان إلى مكاسب اجتماعية كبيرة 49

يجب علينا أن نجعل الحكومة تصلح من الأسواق بشتى الطرق. إن الصراع الاقتصادي في القرن العشرين كان بين الشيوعية والرأسمالية وفازت الرأسمالية.
ومن ناحية أخرى قد يختلف أصحاب الرأي بشدة حول متى وكيف يجب على الحكومة أن تتدخل في اقتصاد سوق ما. وقد يختلفون أيضا حول الضمانات التي نقدمها لمن يعانون من مساوئ الرأسمالية.
إن المعركة الأساسية للاقتصاد في القرن الحادي والعشرين ستكون حول كيفية تحرير أسواقنا من القيود


 الفصل الثاني
 أهمية الدوافع
 لماذا قد ينقذ حياتك استئصال أنفك؟
 (إذا كنت وحيد القرن الأسود)
50
الدوافع  للدوافع أهميتها فعندما نحصل على الرواتب تزيد جديتنا في العمل،
 وإذا ارتفع سعر الوقود، نقلل من استخدامنا للسيارات،
 يقول آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم) 
 the wealth of Nations 
إن الجزار والطاهي والخباز لا يقدمون لنا وجبة العشاء بدافع إنساني منهم، ولكن اهتماما من جانبهم بمصالحهم الخاصة
54

فالمصلحة الشخصية تجعل العالم في حركة مستمرة وهذا المبدأ من الوضوح بمكان لدرجة أننا لا نتكترث به، 
فالشعار القديم: نأخذ من كل شخص وفقا لقدراته ونعطي كل شخص وفقا لاحتياجاته الذي كان نظاما اقتصاديا لم نجن منه إلا العجز والمجاعات الجماعية، 
فأي نظام لا يعتمد على الأسواق تبتعد فيه الدوافع الشخصية كل البعد عن حجم الإنتاجية
 فلا تكافأ المؤسسات أو العمال نظير عملهم الجاد وإبداعاتهم، وكذلك لا يُعاقبون على تقاعسهم أو قلة كفاءتهم
55

أذكر جيدا في طفولتي أن والدي لم يكن له اهتمامات بيئية سوى اعتصار الصخر لاستخراج النقود، فقد كان يجوب أرجاء المنزل لإغلاق أبواب الدواليب صائحا إنه لا يدفع النقود لتكييف الهواء داخل دواليبنا وعلى ذلك يكون الحل الأمثل لمشكلة الكهرباء في ولاية كاليفورنيا، هو السماح لسعر الطاقة بأن يعكس ندرتها 56

فالإنسان مخلوق من الصعب فهمه فهو يسعى دائما لفعل أي شيء كي يحصل على أكثر رفاهية اقتصادية ممكنة. صحيح أن ذلك قد يكون سهل المنال في بعض الأحيان، ولكن في معظم الأحايين يكون أمرا في غاية التعقيد. دائما ما نجد خبراء الاقتصاد يتحدثون عن (الدوافع العكسية) وهي الدوافع غير المتعمدة التي تبرز حينما نبدأ في عمل شيء مختلف تماما، ويسمى ذلك في الأجواء السياسية قانون النتائج غير المقصودة 57
إشكالية المالك والوكيل
إشكالية المالك والوكيل
 فالمالك (صاحب المال) يستأجر وكيلا هو (موظف الخزانة، الكاشير) الذي يكون لديه دافع لعمل الكثير من الأشياء التي ليست بالضرورة تحقق أفضل مصلحة لصاحب العمل، ويصبح هنا صاحب العمل امام احد خيارين: 
إما أن ينفق الأموال والوقت على مراقبة موظفيه للكشف عن السرقات، 
وإما أن يخلق لدى الزبون دافعا ليفعل ذلك نيابة عنه.
 فتلك اللافتة الصغيرة بجوار الكاشير التي تحرض العميل على استلام فاتورته تعتبر أداة إدارية رائعة
59

يعلمنا خبراء الاقتصاد كيفية توجيه الدوافع توجيها صحيحا. أو كما تقول شخصية جوردون جيكو في فيلم (وول ستريت): إن الطمع أمر جيد، لذا تأكد أنه يعمل في صالحك، ومع هذا لم يكن السيد جيكو محقا تماما. فالطمع قد يكون في غاية السوء حتى 62
معضلة السجينين بالنسبة لمن يتسمون بالأنانية، وهذا موجود بالفعل فعلم الاقتصاد ذاخر بالمسائل المستنبطة من مواقف أراد فيها أصحابها التصرف بعقلانية وتحقيق أقصى استفادة ممكنة لكن جاءت الأمور على عكس ما يرجون وحدث الشيء الأسوأ بالنسبة لهم وأحد أشهر الأمثلة على ذلك مثال معضلة السجينين 
prisoner's dilemma 
وهو مثال مختلق ولكنه معبر تماما عن السلوك البشري
63

الرائع في هذا المثال أنه يمثل تماما المواقف الحقيقية التي تؤدي فيها المصلحة الشخصية البحتة إلى نتائج سيئة. وينطبق هذا على طرق استغلال الموارد الطبيعية مثل صيد الأسماك عندما يقوم الكثير من الأفراد بالسحب من أحد الموارد العامة 63

فاقتصاد السوق يحث على العمل الجاد والتقدم ليس فقط لأنه يكافئ الناجحين ولكن أيضا لأنه يسحق الخاسرين. ويتضمن مفهوم اليد الخفية لآدم سميث فكرة التدمير الخلاق 
creative destruction 
وهو المصطلح الذي ابتدعه الاقتصادي الاسترالي جوزيف شومبيتر 
Joseph Schumpete 
فالأسواق لا تستوعب وجود الحمقى
65

قد تكون الرأسمالية عملية قاسية وموجعة، فعندما نتذكر الماضي ونتحدث بفخر عن الاختراعات التكنولوجية مثل المحرك البخاري والمغزل الآلي، يخفى علينا ما أحدثته تلك الطفرات من معاناة للحدادين والنساء اللواتي يكسبن عيشهن من الغزل. 65

فالتدمير الخلاق ليس بالشيء الذي ربما يحدث مع اقتصاد السوق ولكن هو أمر لا بد من حدوثه ففي بداية القرن العشرين كان يعمل كل الشعب الأمريكي في الزراعة وتربية الماشية، أما الآن لا يعمل في الزراعة سوى واحد في المائة من الأمريكيين وهذا الرقم في تراجع مستمر، ومع ذلك لم نمت من الجوع، وقد اختفت نسبة البطالة. ذلك أن انتاجية المزارعين قد زادت بدرجة كبيرة والفئة التي كانت تعمل بالزراعة منذ تسعين عاما هي الآن التي تصلح السيارات وتصمم ألعاب الكمبيوتر وتكون فرق كرة القدم لك أن تتخيل ما كنا سنخسره جميعا من منفعة إذا كان كل من بيل جيتس وستيفن سبيلبيرج وأوبرا وينفري يزرعون الذرة إن التدمير الخلاق قوة لها تأثير إيجابي هائل على المدى البعيد. أما تأثيره السلبي فيتضرر منه بعض الأفراد على المدى القصير فالمنافسة تعني وجود خاسرين، وهذا يفسر لماذا نحتفي بفكرة المنافسة نظريا ثم نعاني من مرارتها على أرض الواقع في معظم الأحيان 66

فنحن نشجع المنافسة ما دامت تمس أشخاص غيرنا 67

وثمة نقطة أخرى ترتبط بالدوافع تزيد من تعقيد السياسة العامة تعقيدا كبيرا وهي أن نقل الثروة من الأغنياء إلى الفقراء ليس بالأمر الهين، فالكونجرس يضع القوانين ولكن الأثرياء من دافعي الضرائب لا يقفون مكتوفي الأيدي دون التصرف حيال ذلك فتجدهم يغيرون تصرفاتهم بطريقة تجنبهم دفع الضرائب قدر الإمكان 67

 فالضرائب تعطي دافعا لتجنبها أو لتقليل النشاط الذي يجري فرضها عليه. إن الضرائب على الدخل تمثل نسبة كبيرة من الدخل الحكومي في أمريكا، وقد تندهش إذا أخبرتك أن الضرائب العالية تقلل من السعي نحو الحصول على دخل أكبر أما إذا ارتفعت المعدلات الضريبية إلى حد معين فقد يلجأ الأفراد والشركات إلى الاقتصاد الخفي underground economy او اقتصاد الظل الذي ينحرفون فيه عن القانون ويتجنبون الضرائب نهائيا 68

وندور في حلقة مفرغة، فعندما يزداد عدد المتجهين للاقتصاد الخفي تزيد الحكومة من المعدلات الضريبية على باقي الأفراد حتى يتوفر لها نفس العائد، وفي المقابل تتسبب الضرائب العالية في اتجاه الأفراد نحو الاقتصاد الخفي بصورة أكبر وهكذا 69

 ولا يتعلق التحدي بنقل الأموال من الأغنياء إلى الفقراء بالضرائب فحسب، فإعانات الحكومة تتسبب في دوافع عكسية أيضا فالإعانات السخية التي تقدم للعاطلين عن العمل تثبط لديهم دافع البحث عن عمل 69
$$$$ $$$$ $$$$
$$$$ $$$$ $$$$
$$$$ $$$$ $$$$
$$$$ $$$$ $$$$
$$$$ $$$$ $$$$
$$$$ $$$$ $$$$
$$$$ $$$$ $$$$
$$$$ $$$$ $$$$
$$$$ $$$$ $$$$
$$$$ $$$$ $$$$
$$$$ $$$$ $$$$

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفسير الميزان| الطباطبائي| سورة الفاتحة

في ظلال القرآن | سيد قطب| المقدمة