روح المعاني | تفسير الألوسي | خطبة المفسر|


بسم الله الرحمن الرحيم
[خطبة المفسر]
حمدا لمن جعل روح معاني الأكوان تفسيرا لآيات قدرته.
 وصير نقوش أشباح الأعيان بيانا لبينات وحدته
.
وأظهر من غيب هويته قرآنا غدا فرقانه كشافا عن فرق الكتب الإلهية الغياهب
.
 وأبرز من سجف ألوهيته نورا أشرق على مرايا الكائنات بحسب مزايا الاستعدادات
.
 فاتضحت من معالم العوالم المراتب
.
 وصلاة وسلاما على أول درة أضاءت من الكنز المخفي في ظلمة عماء القدم
.
 فأبصرتها عين الوجود
.
 وعلة إيجاد كل درة برأتها يد الحكيم إذ تردت في هوة العدم
.
 فعادت ترفل بأردية كرم وجود مهبط الوحي الشفاهي الذي ارتفع رأس الروح الأمين بالهبوط إلى موطىء أقدامه ومعدن السر الإلهي
.
 الذي انقطع فكر الملأ الأعلى دون ذكر الوصول إلى أدنى مقامه
.
 فهو النبي الذي أبرزه مولاه من ظهور الكمون إلى حواشي متون الظهور
.
 ليكون شرحا لكتاب صفاته وتقريرا ورفعه بتخصيصه من بين العموم بمظهرية سره المستور
.
 وأنزل عليه قرآنا عربيا غير ذي عوج ليكون للعالمين نذيرا
.
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وعلى آله وأصحابه مطالع أنوار التنزيل ومغارب أسرار التأويل
.
 الذين دخلوا عكاظ الحقائق بالوساطة المحمدية
.
فما برحوا حتى ربحوا فباعوا نفوسا وشروا نفيسا وقطعوا أسباب العلائق بالهمم الحقيقية
.
 فما عرجوا حتى عرجوا فلقوا عزيزا وألقوا خسيسا
.
 فهم النجوم المشرقة بنور الهدى والرجوم المحرقة لشياطين الردى رضي الله عنهم وأرضاهم
.
ووالى متبعيهم وأولاهم،
 ما سرحت روح المعاني في رياض القرآن،
 وسبحت أشباح المباني في حياض العرفان
.
«أما بعد»
فيقول عيبة العيوب وذنوب الذنوب. أفقر العباد إليه عز شأنه مدرس دار السلطنة العلية، ومفتي بغداد المحمية أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي عفي عنه
.
 إن العلوم وإن تباينت أصولها،
 وغربت وشرقت فصولها،
 واختلفت أحوالها.
 وأتهمت وأنجدت أقوالها.
 وتنوعت أبوابها.
 وأشأمت وأعرقت أصحابها وتغايرت مسائلها. وأيمنت وأيسرت وسائلها،
 فهي بأسرها مهمة ومعرفتها على العلات نعمة
.
 إلا أن أعلاها قدرا،
 وأغلاها مهرا وأسناها مبنى،
 وأسماها معنى وأدقها فكرا وأرقها سرا،
 وأعرقها نسبا وأعرفها أبا وأقومها قيلا وأقواها قبيلا وأحلاها لسانا وأجلاها بيانا وأوضحها سبيلا وأصحها دليلا وأفصحها نطقا.
 وأمنحها رفقا العلوم الدينية
. والفهوم اللدنية. فهي شمس ضحاها وبدر دجاها وخال وجنتها ولعس شفتها ودعج عيونها وغنج جفونها وحبب رضابها، وتنهد كعابها، ورقة كلامها، ولين قوامها.

على نفسه فليبك من ضاع عمره 
...
 وليس له منها نصيب ولا سهم

فلا ينبغي لعاقل أن يستغرق النهار والليل
 إلا في غوص بحارها،
 أو يستنهض الرجل والخيل،
 إلا في
[3]
 سبر أغوارها.
أو يصرف نفائس الأنفاس إلا في مهور أبكارها،
 أو ينفق بدر الأعمار إلا لتشوف بدر أسرارها
.
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة
 ...
 على غير سلمى فهو دمع مضيع
وإن من ذلك علم التفسير:
 الباحث عما أراده الله سبحانه بكلامه المجيد،
 الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
.
 فهو الحبل المتين والعروة الوثقى.
 والصراط المبين،
 والوزر الأقوى والأوقى،
 وإني ولله تعالى المنة مذ ميطت عني التمائم، ونيطت على رأسي العمائم لم أزل متطلبا لاستكشاف سره المكتوم،
 مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم
 طالما فرقت نومي لجمع شوارده
 وفارقت قومي لوصال خرائده
.
 فلو رأيتني وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر،
 وأطالع- إن أعوز الشمع يوما- على نور القمر، في كثير من ليالي الشهر
 وأمثالي إذ ذاك يرفلون في مطارف اللهو. ويرقلون في ميادين الزهو.
 ويؤثرون مسرات الأشباح على لذات الأرواح. 
ويهبون نفائس الأوقات، لنهب خسائس الشهوات.
 وأنا مع حداثة سني وضيق عطني لا تغرني حالهم ولا تغيرني أفعالهم.
 كأن لبني لبانتي، ووصال سعدى سعادتي.
حتى وقفت على كثير من حقائقه،
 ووفقت لحل وفير من دقائقه.
 وثقبت- والثناء لله تعالى- من دره بقلم فكري درا مثمنا
 ولا بدع فأنا من فضل الله الشهاب وأبو الثنا
.
 وقبل أن يكمل سني عشرين جعلت أصدح به وأصدع. وشرعت أدفع كثيرا من إشكالات الأشكال وأدفع وأتجاهر بما ألهمنيه ربي مما لم أظفر به في كتاب من دقائق التفسير
.
 وأعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذي ذهن خطير
.
 ولست أنا أول من منّ الله تعالى عليه بذلك،
 ولا آخر من سلك في هاتيك المسالك.
 فكم وكم للزمان ولد مثلي،
 وكم تفضل الفرد عز شأنه على كثير بأضعاف فضلي
.
ألا إنما الأيام أبناء واحد
 ... 
وهذي الليالي كلها أخوات
إلا أن رياض هذه الأعصار عراها إعصار،
 وحياض تيك الأمصار اعتراها اعتصار.
 فصار العلم بالعيوق والعلماء أعز من بيض الأنوق،
 والفضل معلق بأجنحة النسور وميت حي الأدب لا يرجى له نشور.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
 ... 
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولكن الملك المنان أبقى من فضله الكثير قليلا من ذوي العرفان في هذه الأزمان،
 دينهم اقتناص الشوارد وديدنهم افتضاض أبكار الفوائد.
 يروون فيروون ويقدحون فيورون.
 لكل منهم مزية لا يستتر نورها ومرتبة لا ينتثر نورها.
طالما اقتطفت من أزهارهم واقتبست من أنوارهم. وكم صدر منهم أودعت علمه صدري.
 وحبر فيهم أفنيت في فوائده حبري.
ولم أزل مدة على هذه الحال لا أعبأ بما عبالي مما قيل أو يقال
 كتاب الله لي أفضل مؤانس 
وسميري إذا احلولكت ظلمة الحنادس
.
نعم السمير كتاب الله إن له 
... 
حلاوة هي أحلى من جنى الضرب
....
به فنون المعاني قد جمعن فما
 ... 
تفترّ من عجب إلا إلى عجب
....
أمر ونهي وأمثال وموعظة
 ... 
وحكمة أودعت في أفصح الكتب
....
لطائف يجتليها كل ذي بصر
 ... 
وروضة يجتنيها كل ذي أدب

وكانت كثيرا ما تحدثني في القديم نفسي أن أحبس في قفص التحرير ما اصطاده الذهن بشبكة الفكر أو
اختطفه باز الإلهام في جو حدسي. فأتعلل تارة بتشويش البال (1) بضيق الحال وأخرى بفرط الملال لسعة المجال.
[٤]
 إلى أن رأيت في بعض ليالي الجمعة من رجب الأصم سنة الألف والمائتين والاثنتين والخمسين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم رؤية لا أعدها أضغاث أحلام ولا أحسبها خيالات أوهام
 أن الله جل شأنه وعظم سلطانه أمرني بطي السماوات والأرض،
 ورتق فتقهما على الطول والعرض
 فرفعت يدا إلى السماء
 وخفضت الأخرى إلى مستقر الماء
 ثم انتبهت من نومتي،
 وأنا مستعظم رؤيتي،
 فجعلت أفتش لها عن تعبير فرأيت في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير.
 فرددت حينئذ على النفس تعللها القديم
 وشرعت مستعينا بالله تعالى العظيم،
وكأني إن شاء الله تعالى عن قريب عند إتمامه بعون عالم سري ونجواي أنادي
 وأقول غير مبال بتشنيع جهول:
هذا تأويل رؤياي،
 وكان الشروع في الليلة السادسة عشرة من شعبان المبارك من السنة المذكورة وهي السنة الرابعة والثلاثون من سني عمري جعلها الله تعالى بسني لطفه معمورة
 وقد تشرف الذهن المشتت بتأليفه
 وأحكمت غرف مغاني المعاني بمحكم ترصيفه،
 زمن خلافة خليفة الله الأعظم،
 وظله المبسوط على خليقته في العالم
 مجدد نظام القواعد المحمدية،
 ومحدد جهات العدالة الإسلامية
 سورة الحمد 
الذي أظهره الرحمن في صورة الملك
 لكسر سورة الكافرين،
 وآية السيف الذي عوده الفاطر والفتح والنصر وأيده بمرسلات الذاريات في كل عصر فويل للمنافقين،
 من نازعات أرواحهم
 إذا عبس صمصام عزمه المتين،
 حضرة مولانا السلطان ابن السلطان سلطان الثقلين وخادم الحرمين المجدد الغازي محمود خان العدلي ابن السلطان عبد الحميد خان أيده الرحمن وأبد ملكه ما دام الدوران آمين،
 وبعد أن أبرمت حبل النية
 ونشرت مطوي الأمنية
 وعرا المخاض قريحة الأذهان 
وقرب ظهور طفل التفسير للعيان
 جعلت أفكر ما اسمه
 وبماذا أدعوه إذا وضعته أمه
 فلم يظهر لي اسم تهتش له الضمائر 
وتبتش من سماعه الخواطر 
فعرضت الحال لدى حضرة وزير الوزراء
 ونور حديقة البهاء
 ونور حدقة الوزراء
 آية الله التي لا تنسخها آية،
 ورب النهى الذي ليس له نهاية
 وصاحب الأخلاق التي ملك بها القلوب
 ومعدن الأذواق التي يكاد أن يعلم معها الغيوب مولانا علي رضا باشا لا زال له الرضا غطاءوفراشا فسماه على الفور 
وبديهة ذهنه تغني عن الغور
«روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني»
فيا له اسم ما اسماه
 نسأل الله تعالى أن يطابقه مسماه 
وأحمد الله تعالى حمدا غضا، 
وأصلي وأسلم على نبيه النبيه حتى يرضى.
وقد آن وقت الشروع في المقصود
 مقدما عليه عدة فوائد يليق أن تكتب بسواد العيون على صفحات الخدود
 فأقول:
«الفائدة الأولى»
في معنى التفسير والتأويل وبيان الحاجة إلى هذا العلم وشرفه:
 وأما معناهما
 فالتفسير تفعيل من الفسر 
وهو لغة: البيان والكشف 
والقول بأنه مقلوب السفر مما لا يسفر له وجه، ويطلق التفسير
 على التعرية للانطلاق 
يقال: فسرت الفرس، إذا عريته لينطلق
 ولعله يرجع لمعنى الكشف كما لا يخفى
 بل كل تصاريف حروفه لا تخلو عن ذلك 
كما هو ظاهر لمن أمعن النظر.
 ورسموه بأنه:
 علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب 
وتتمات لذلك كمعرفة النسخ وسبب النزول وقصة توضح ما أبهم في القرآن ونحو ذلك.
والتأويل: من الأول وهو الرجوع
 والقول بأنه من الإيالة
 وهي السياسة كأن المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه ليس بشيء 
واختلف في الفرق بين التفسير والتأويل 
فقال أبو عبيدة:
هما بمعنى،
وقال الراغب:
التفسير أعم وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها في الكتب الإلهية وغيرها والتأويل في المعاني والجمل في الكتب الإلهية خاصة
 وقال الماتريدي:
[٥]
التفسير القطع بأن مراد الله تعالى كذا
 والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع،
وقيل:
التفسير ما يتعلق بالرواية،
 والتأويل ما يتعلق بالدراية.
 وقيل غير ذلك،
 وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف فكل الأقوال فيه ما سمعتها وما لم تسمعها مخالفة للعرف اليوم
 إذ قد تعارف من غير نكير أن 
التأويل إشارة قدسية ومعارف سبحانية
 تنكشف من سجف العبارات للسالكين
 وتنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين، والتفسير غير ذلك 
وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال أو بوجه ما فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعا وفي كل إرجاع كشفا فافهم،
 وأما بيان الحاجةإليه فلأن فهم القرآن العظيم
= المشتمل على الأحكام الشرعية التي هي مدار السعادة الأبدية وهو العروة الوثقى والصراط المستقيم=
 أمر عسير لا يهتدى إليه إلا بتوفيق من اللطيف الخبير حتى إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم على علو كعبهم في الفصاحة واستنارة بواطنهم بما أشرق عليها من مشكاة النبوة كانوا كثيرا ما يرجعون إليه صلى الله عليه وسلم بالسؤال عن أشياء لم يعرجوا عليها ولم تصل أفهامهم إليها
 بل ربما التبس عليهم الحال ففهموا غير ما أراده الملك المتعال 
كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود، ولا شك أنا محتاجون إلى ما كانوا محتاجين إليه وزيادة
«وأما بيان شرفه» 
فلأن شرف العلم بشرف موضوعه وشرف معلومه وغايته وشدة الاحتياج إليه وهو حائز لجميعها،
 فإن موضوعه:
 كلام الله تعالى 
وماذا عسى أن يقال فيه،
 ومعلومه:
 مع أنه مراد الله تعالى الدال عليه كلامه جامع للعقائد الحقة والأحكام الشرعية وغيرها،
 وغايته:
 الاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والوصول إلى سعادة الدارين
 وشدة الاحتياج إليه ظاهرة مما تقدم بل هو رئيس جميع العلوم الدينية لكونها مأخوذة من الكتاب وهي تحتاج من حيث الثبوت أو من حيث الاعتداد إلى علم التفسير وهذا لا ينافي كون الكلام رئيسها أيضا لأن علم التفسير لتوقفه على ثبوت كونه تعالى متكلما يحتاج إلى الكلام والكلام لتوقف جميع مسائله من حيث الثبوت أو الاعتداد على الكتاب يتوقف على التفسير فيكون كل منهما رئيسا للآخر من وجه على أن رياسة التفسير بناء على ذلك الشرف مما لا ينتطح فيه كبشان،
وأما الآثار الدالة على شرفه فكثيرة:
 أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ)
 قال:
 المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وأخرج أبو عبيدة عن الحسن قال:
ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن تعلم فيما أنزلت وما أراد بها،
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال:
ما مررت بآية لا أعرفها إلا أحزنتني لأني سمعت الله يقول:
«وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون»
إلى غير ذلك.
«الفائدة الثانية»
فيما يحتاجه التفسير
 ومعنى التفسير بالرأي-
 وحكم كلام السادة الصوفية في القرآن،
فأما ما يحتاجه التفسير فأمور:
«الأول» 
علم اللغة
 لأن به يعرف شرح مفردات الألفاظ ومعلولاتها بحسب الوضع
 ولا يكفي اليسير إذ قد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر 
فمن لم يكن عالما بلغات العرب لا يحل له التفسير كما قاله مجاهد
 وينكل كما قاله مالك
- وهذا مما لا شبهة فيه-
 نعم روي عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر 
فقال: ما يعجبني
- وهو ليس بنص في المنع عن بيان المدلول اللغوي للعارف كما لا يخفى.
«الثاني»
معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة أفرادها وتركيبها
 ويؤخذ ذلك من علم النحو
 أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته 
فقال: حسن فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها
 وفي قصة الأسود ما يغني عن الإطالة. 
«الثالث»
علم المعاني والبيان والبديع،
 ويعرف بالأول
 خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى
 وبالثاني 
خواصها من حيث اختلافها،
 وبالثالث
 وجوه تحسين الكلام وهو الركن
[٦]
الأقوم واللازم الأعظم في هذا الشأن كما لا يخفى ذلك على من ذاق طعم العلوم ولو بطرف اللسان
.
«الرابع»
تعيين مبهم وتبيين مجمل وسبب نزول ونسخ ويؤخذ ذلك من علم الحديث

«الخامس»
معرفة الإجمال والتبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأمر والنهي وما أشبه هذا وأخذوه من أصول الفقه
.
«السادس»
الكلام فيما يجوز على الله وما يجب له وما يستحيل عليه 
والنظر في النبوة
 ويؤخذ هذا من علم الكلام ولولاه يقع المفسر في ورطات
.
«السابع»
علم القراءات لأنه به يعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات ترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض هذا
 ـ وعد السيوطي مما يحتاج إليه المفسر علم التصريف وعلم الاشتقاق ـ 
وأنا أظن أن المهارة ببعض ما ذكرنا يترتب عليها ما يترتب عليهما من الثمرة
 وعد أيضا علم الفقه ولم يعده غيره ولكل وجهة وعد علم الموهبة أيضا من ذلك. 
قال: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم وإليه الإشارةبالحديث:
 «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم»
ثم قال: ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول هذا شيء ليس في قدرة الإنسان تحصيله وليس كما ظننت والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد إلى آخر ما قاله،
 وفيه أن علم الموهبة بعد تسليم أنه كسبي إنما يحتاج إليه في الاطلاع على الأسرار لا في أصل فهم معاني القرآن كما يفهمه كلام البرهان وكثير من المفسرين بصدد الثاني
 والواقفون على الأسرار ـ وقليل ما هم ـ لا يستطيعون التعبير عن كثير مما أفيض عليهم فضلا عن تحريره وإقامة البرهان عليه على أن ذلك تأويل لا تفسير فلعل السيوطي أراد من عبارته معنى آخر يظهر لك بالتدبير فتدبر 
«وأما التفسير بالرأي»
فالشائع المنع عنه واستدل عليه بماأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من قوله صلى الله  عليه وسلم:
«من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»
وفي رواية عن أبي داود:
 «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»
ولا دليل في ذلك 
أما أولا فلأن في صحة الحديث الأول مقالا 
قال في المدخل:
 في صحته نظر 
وإن صح فإنما أراد به ـ والله تعالى أعلم ـ فقد أخطأ الطريق إذ الطريق الرجوع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي نحو الناسخ والمنسوخ إلى الأخبار وفي بيان المراد منه إلى صاحب الشرع فإن لم يجد هناك وهنا فلا بأس بالفكرة ليستدل بما ورد على ما لم يرد
 أو أراد من قال بالقرآن قولا يوافق هواه بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي وجه فقد أخطأ 
فالباء على ذلك سببية 
أو يقال: ذلك في المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله أو في الجزم بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل،
 وأما الحديث الثاني:
 فله معنيان،
 الأول: من قال في مشكل القرآن بما لا يعلم فهو متعرض لسخط الله تعالى،
والثاني وصحح من قال: «في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده في النار»
وأما ثانيا:
 فلأن الأدلة على جواز الرأي والاجتهاد في القرآن كثيرة 
وهي تعارض ما يشعر بالمنع
 فقد قال تعالى: 
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ 
[النساء: 83]
وقال تعالى:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها 
[محمد: 24] 
وقال تعالى: 
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ 
[ص: 29]
وأخرج أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس:
 «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه»
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس
بقوله:
 «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه سئل:
 هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟
فقال: ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة،
 والعجب كل العجب مما يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني التراكيب ولم ينظر إلى اختلاف التفاسير وتنوعها ولم يعلم أن ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك كالكبريت الأحمر 
فالذي ينبغي أن يعول عليه أن من كان
[7]
 متبحرا في علم اللسان مترقيا منه إلى ذوق العرفان وله في رياض العلوم الدينية أوفى مرتع، وفي حياضها أصفى مكرع يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد وقد غدا ذهنه لما أغلق من دقائق التحقيقات أحسن إقليد فذاك يجوز له أن يرتقي من علمالتفسير ذروته ويمتطي منه صهوته، وأما من صرف عمره بوساوس أرسطاطاليس واختار شوك القنافذ على ريش الطواويس فهو بمعزل عن فهم غوامض الكتاب وإدراك ما تضمنه من العجب العجاب، وأما كلام السادة الصوفية في القرآن
 فهو من باب الإشارات إلى دقائق 
تنكشف على أرباب السلوك 
ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة 
وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان 
لا أنهم اعتقدوا أن الظاهر غير مراد أصلا 
وإنما المراد الباطن فقط 
إذ ذاك اعتقاد الباطنية الملاحدة توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية وحاشى سادتنا من ذلك
كيف وقد حضوا على حفظ التفسير الظاهر 
وقالوا لا بد منه أولا 
إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر 
ومن ادعى فهم أسرار القرآن قبل إحكام التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب 
ومما يؤيد أن للقرآن ظاهرا وباطنا:
 ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال:
القرآن ذو شجون وفنون،
 وظهور وبطون،
 لا تنقضي عجائبه،
 ولا تبلغ غايته،
 فمن أوغل فيه برفق نجا
 ومن أوغل فيه بعنف هوى 
أخبار وأمثال
 وحلال وحرام
 وناسخ ومنسوخ 
ومحكم ومتشابه 
وظهر وبطن 
فظهره التلاوة
 وبطنه التأويل
 فجالسوا به العلماء 
وجانبوا به السفهاء
.
وقال ابن مسعود:
من أراد علم الأولين والآخرين فليتل القرآن،
ومن المعلوم أن هذا لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض من يوثق به:
لكل آية ستون ألف فهم،
وروي عن الحسن قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع»
قال ابن النقيب:
إن ظاهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وباطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق،
 ومعنى قوله:
 ولكل حرف حد
أن لكل حرف منتهى فيما أراده الله تعالى من معناه ومعنى قوله: 
ولكل حد مطلع
أن لكل غامض من المعاني والأحكام مطلعا يتوصل به إلى معرفته ويوقف عن المراد به
وقيل في رواية:
 لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع
والمذكور بوساطة الألفاظ وتأليفاتها وضعا وإفادة وجعلها طرقا إلى استنباط الأحكام الخمسة هو الظهر
 وروح الألفاظ أعني الكلام المعتلي عن المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية هو البطن
 وإليه الإشارة بقول الأمير السابق
.
 والحد إما بين الظهر والبطن يرتقى منه إليه وهو المدرك بالجمعية من الجمعية 
وإما بين البطن والمطلع 
فالمطلع مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم المشار إليه بقول الصادق:
 لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون،
 والحد بينهما يرتقى به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم واستهلاك صفة العبد تحت تجليات أنوار صفة المتكلم تعالى شأنه، 
وقيل الظهر التفسير 
والبطن التأويل 
والحد ما تتناهى إليه الفهوم من معنى الكلام والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام 
انتهى
.
فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل بل أدنى ذرة من إيمان أن ينكر اشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من شاء من عباده
 ويا ليت شعري ماذا يصنع المنكر بقوله تعالى: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ 
[يوسف:111، الأنعام: 154، الأعراف: 145]
وقوله تعالى:
 ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ 
[الأنعام: 38] 
ويا لله تعالى العجب كيف يقول باحتمال ديوان المتنبي وأبياته المعاني الكثيرة
 ولا يقول باشتمال قرآن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآياته وهو كلام رب العالمين المنزل على خاتم المرسلين على ما شاء الله تعالى من المعاني المحتجبة وراء سرادقات تلك المباني
 سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ 
[النور: 16]
بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزمان إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت.
وقد ذكر ابن خلكان في تاريخه:
 أن السلطان صلاح الدين لما فتح مدينة حلب أنشد القاضي محيي الدين قصيدة بائية
[8]
 أجاد فيها كل الإجادة وكان من جملتها:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر 
...
 مبشر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال
 فسئل القاضي من أين لك هذا؟
 فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى:
 الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ 
[الروم: 1- 4]
قال المؤرخ: فلم أزل أتطلب التفسير المذكور حتى وجدته على هذه الصورة
 وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراجه
 وله نظائر كثيرة،
ومن المشهور استنباط ابن الكمال فتح مصر على يد السلطان سليم من قوله تعالى:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ
[الأنبياء: 105] 
فالإنصاف كل الإنصاف التسليم للسادة الصوفية الذين هم مركز للدائرة المحمدية ما هم عليه واتهام ذهنك السقيم فيما لم يصل لكثرة العوائق والعلائق إليه.
وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار
وسيأتي تتمة لهذا البحث إن شاء الله تعالى والله الهادي إلى سواء السبيل.
«الفائدة الثالثة»
اعلم أن لكتاب الله تعالى أسماء أنهاها شيدلة في البرهان خمسة وخمسين اسما
 وذكر السيوطي بعد عدها في الإتقان وجوه تسميته بها ولم يذكر غير ذلك وعندي أنها كلها ترجع بعد التأمل الصادق إلى القرآن والفرقان رجوع أسماء الله تعالى إلى صفتي الجمال والجلال فهما الأصل فيها،
 وقد اختلف الناس في تحقيق لفظ القرآن،
 فالمروي عن الشافعي وبه قال جماعة أنه اسم علم غير مشتق خاص بهذا الكلام المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم وهو معرفا غير مهموز عنده كما حكاه عنه البيهقي والخطيب وغيرهما، والمنقول عن الأشعري وأقوام أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه وسمي به عندهم لقران السور والآيات والحروف فيه بعضها ببعض، وقال الفراء:
 هو مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا ويشبه بعضها بعضا 
وهو على هذين القولين بلا همز أيضا ونونه أصلية، وقال الزجاج:
هذا القول غلط والصواب أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف ونقل حركتها إلى ما قبلها 
فهو عنده وصف مهموز على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته 
وسمي به لأنه جمع السور كما قال أبو عبيدة 
أو ثمرات الكتب السالفة كما قال الراغب 
أو لأن القارئ يظهره من فيه أخذا من قولهم ما قرأت الناقة سلى قط (2) كما حكي عن قطرب
 وعند اللحياني وجماعة هو مصدر كالغفران سمي به المقروء تسمية المفعول بالمصدر،
قال السيوطي: قلت والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه
 انتهى 
وأنا ـ متبرئ من حولي ـ أقول:
 قول الزجاج أرق من وجه إذ الشائع فيه الهمز وبه قرأ السبعة ما عدا ابن كثير وقد وجه إسقاطها بما مر آنفا ولم يوجه إثباتها وكأن قول السيوطي محض تقليد لإمام مذهبه حيث لم يذكر الدليل ولم يوضح السبيل،
 وعندي أنه في الأصل وصف أو مصدر كما قال الزجاج واللحياني لكنه نقل وجعل علما شخصيا كما ذهب إليه الشافعي ومحققو الأصوليين 
وعليه لا يعرّف القرآن؛
 لأن التعريف لا يكون إلا للحقائق الكلية،
 ولعل من عرفه بالكلام المنزل للإعجاز بسورة منه أراد تصوير مفهوم لفظ القرآن 
وكذا من قال كالغزالي:
 إنه ما نقل بين دفتي المصحف تواترا
 أراد تخصيص الاسم بأحد الأقسام الثلاثة مما نقل بين الدفتين ومما لم ينقل كالمنسوخ تلاوته نحو
ـ إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ـ وما نقل ولم يتواتر نحو ـ ثلاثة أيام متتابعات ـ ليعلم أن ذلك هو الدليل وعليه الأحكام من نحو منع التلاوة والمس محدثا وإلا فيرد على الأول إن أريد التمييز أن كونه للإعجاز ليس لازما بينا إذ لا يعرفه إلا الأفراد من العلماء فضلا
[9]
 عن أن يكون ذاتيا فكيف يصح لتعريف الحقيقة وتمييزها وهو إنما يكون بالذاتيات أو باللوازم البينة،



(1) أنكر جماعة من أهل اللغة مجيء مشوش وقالوا الصواب أن يقال هوشته فهو مهوش لأنه من الهوش وهو اختلاط الشيء. وأثبته الجوهري فقال التشويش التخليط ووهمه صاحب القاموس. وقال ابن بري: إنه من كلام المولدين ولا أصل له في العربية. وقد اشتهر هذا اللفظ ووقع في كلام الزمخشري وغيره من أهل المعاني كقولهم هذا لف ونشر مشوش. اهـ مصححه
(2) أي ما أسقطت ولدا أي ما حملت قط.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفسير الميزان| الطباطبائي| سورة الفاتحة

في ظلال القرآن | سيد قطب| المقدمة