تفسير الميزان| السيد الطباطبائي| المقدمة|

المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، 
والصلاة على من جعله شاهدا ومبشرا ونذيرا، 
وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، 
وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهرهم تطهيرا.
مقدمة: 
نعرف فيها مسلك البحث عن معاني آيات القرآن الكريم في هذا الكتاب 
بطريق الاختصار 
التفسير 
(وهو بيان معاني الآيات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها) 
من أقدم الاشتغالات العلمية 
التي تعهد من المسلمين، 
فقد شرع تاريخ هذا النوع من البحث والتنقير المسمى بالتفسير 
من عصر نزول القرآن 
كما يظهر من قوله تعالى وتقدس: 
(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة 
الآية) 
البقرة - 151.
وقد كانت الطبقة الأولى من مفسري المسلمين جماعة من الصحابة 
(والمراد بهم غير علي عليه السلام، 
فان له وللأئمة من ولده نبأ آخر سنتعرض له) 
كابن عباس 
وعبد الله بن عمر 
وأبي 
وغيرهم 
اعتنوا بهذا الشأن، 
وكان البحث يومئذ لا يتجاوز عن 
بيان ما يرتبط من الآيات بجهاتها الأدبية 
وشأن النزول 
وقليل من الاستدلال بآية على آية 
وكذلك قليل من التفسير بالروايات المأثورة 
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم 
في القصص ومعارف المبدء والمعاد وغيرها.
وعلى هذا الوصف جرى الحال بين 
المفسرين من التابعين 
كمجاهد وقتادة وابن أبي ليلى 
والشعبي والسدي 
وغيرهم 
في القرنين الأولين من الهجرة، 
فإنهم لم يزيدوا على طريقة سلفهم 
من مفسري الصحابة شيئا 
غير أنهم زادوا من التفسير بالروايات، 
(وبينها روايات دسها اليهود أو غيرهم)، 
فأوردوها في القصص والمعارف الراجعة إلى
الخلقة كابتداء السماوات 
وتكوين الأرض والبحار 
وإرم شدّاد 
وعثرات الأنبياء 
وتحريف الكتاب 
وأشياء أخر من هذا النوع، 
وقد كان يوجد بعض ذلك في المأثور عن الصحابة 
من التفسير والبحث 
ثم استوجب شيوع البحث الكلامي 
بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم 
في زمن الخلفاء 
باختلاط المسلمين بالفرق المختلفة 
من أمم البلاد المفتوحة بيد المسلمين 
وعلماء الأديان والمذاهب المتفرقة من جهة.
ونقل فلسفة يونان إلى العربية 
في السلطنة الأموية 
أواخر القرن الأول من الهجرة، 
ثم في عهد العباسيين، 
وانتشار البحث العقلي الفلسفي 
بين الباحثين من المسلمين 
من جهة أخرى ثانية.
وظهور التصوف مقارنا لانتشار البحث الفلسفي وتمايل الناس إلى نيل المعارف الدينية 
من طريق المجاهدة والرياضة النفسانية 
دون البحث اللفظي والعقلي 
من جهة أخرى ثالثة 
وبقاء جمع من الناس 
وهم أهل الحديث 
على التعبد المحض بالظواهر الدينية 
من غير بحث إلا عن اللفظ بجهاتها الأدبية 
من جهة أخرى رابعة.
 ان اختلف

 [gehad 

ان اختلف، المصدر المؤول في محل نصب مفعول استوجب، في اول الفقرة، ثم استوجب شيوع البحث الكلامي ....]

الباحثون في التفسير في مسالكهم 
بعد ما عمل فيهم الانشعاب في المذاهب ما عمل، 
ولم يبق بينهم جامع في الرأي والنظر 
إلا لفظ 
لا إله إلا الله ومحمد رسول الله 
صلى الله عليه وآله وسلم 
واختلفوا في معنى 
الأسماء والصفات والأفعال
والسماوات وما فيها 
والأرض وما عليها 
والقضاء والقدر 
والجبر والتفويض 
والثواب والعقاب 
وفي الموت 
وفي البرزخ 
والبعث والجنة والنار، 
وبالجملة في جميع ما تمسه الحقائق والمعارف الدينية ولو بعض المس، 
فتفرقوا في طريق البحث عن معاني الآيات، 
وكل يتحفظ على متن ما اتخذه 
من المذهب والطريقة.
فأما المحدثون، 
فاقتصروا على التفسير بالرواية 
عن السلف من الصحابة والتابعين 
فساروا وجدوا في السير 
حيث ما يسير بهم المأثور 
ووقفوا فيما لم يؤثر فيه شئ 
ولم يظهر المعنى ظهورا 
لا يحتاج إلى البحث 
أخذا بقوله تعالى: 
(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) 
الآية 
آل عمران - 7. 
وقد أخطأوا في ذلك 
فإن الله سبحانه لم يبطل حجة العقل في كتابه، 
وكيف يعقل ذلك وحجيته إنما تثبت به! 
ولم يجعل حجية في أقوال الصحابة والتابعين وانظارهم 
على اختلافها الفاحش، 
ولم يدع إلى السفسطة 
بتسليم المتناقضات والمتنافيات من الأقوال، 
ولم يندب الا إلى التدبر في آياته، 
فرفع به أي اختلاف يترائى منها، 
وجعله هدى ونورا وتبيانا لكل شئ، 
فما بال النور يستنير بنورٍ غيره! 
وما شأن الهدى يهتدي بهداية سواه! 
وكيف يتبين ما هو تبيان كل شئ بشئ دون نفسه!.
=====================
واما المتكلمون فقد دعاهم الأقوال المذهبية على اختلافها 
أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم 
بأخذ ما وافق 
وتأويل ما خالف، 
على حسب ما يجوزه قول المذهب.

واختيار المذاهب الخاصة 
واتخاذ المسالك والآراء المخصوصة 
وان كان معلولا لاختلاف الانظار العلمية 
أو لشئ آخر كالتقاليد والعصبيات القومية، 
وليس هاهنا محل الاشتغال بذلك، 
الا ان هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمى تطبيقا لا تفسيرا 
ففرق بين ان يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ما ذا يقول القرآن؟ 
أو يقول:
ماذا يجب ان نحمل عليه الآية؟ 
فإن القول الأول 
يوجب ان ينسى كل أمر نظري عند البحث، 
وان يتكئ على ما ليس بنظري، 
والثاني 
يوجب وضع النظريات في المسألة 
وتسليمها وبناء البحث عليها، 
ومن المعلوم ان هذا النحو من البحث في الكلام 
ليس بحثا عن معناه في نفسه.
وأما الفلاسفة، 
فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين 
من الوقوع في ورطة التطبيق 
وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات 
في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم 
أعني:
الرياضيات والطبيعيات 
والإلهيات والحكمة العملية، 
وخاصة المشائين، 
وقد تأولوا الآيات الواردة في 
حقائق ما وراء الطبيعة 
وآيات الخلقة 
وحدوث السماوات والأرض 
وآيات البرزخ وآيات المعاد، 
حتى انهم ارتكبوا التأويل في الآيات 
التي لا تلائم الفرضيات والأصول الموضوعة 
التي نجدها في العلم الطبيعي: 
من نظام الأفلاك الكلية والجزئية 
وترتيب العناصر 
والاحكام الفلكية والعنصرية 
إلى غير ذلك، 
مع أنهم نصوا على 
أن هذه الانظار مبتنية على أصول موضوعة 
لا بينة ولا مبينة.
وأما المتصوفة، 
فإنهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة 
واعتنائهم بشأن الآيات الانفسية 
دون عالم الظاهر وآياته الآفاقية اقتصروا في بحثهم على التأويل، 
ورفضوا التنزيل، 
فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل، 
وتلفيق جمل شعرية 
والاستدلال من كل شئ على كل شئ، 
حتى آل الامر إلى تفسير الآيات 
بحساب الجمل 
ورد الكلمات إلى 
الزبر والبينات والحروف النورانية والظلمانية إلى غير ذلك.
ومن الواضح أن القرآن لم ينزل هدى للمتصوفة خاصة، 
ولا أن المخاطبين به هم أصحاب علم الاعداد والأوفاق والحروف، 
ولا أن معارفه مبنية على أساس حساب الجمل 
الذي وضعه أهل التنجيم 
بعد نقل النجوم من اليونانية وغيرها 
إلى العربية.
نعم قد وردت روايات عن 
النبي صلى الله عليه وآله وسلم 
وأئمة أهل البيت عليهم السلام 
كقولهم:
ان للقرآن ظهرا وبطنا 
ولبطنه بطنا إلى سبعة ابطن 
أو إلى سبعين بطنا 
الحديث.
لكنهم (عليهم السلام) اعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن، 
واعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل، وسنبين في أوائل سورة آل عمران إن شاء الله: 
أن التأويل 
الذي يراد به المعنى المقصود الذي يخالف ظاهر الكلام 
من اللغات المستحدثة 

[gehad من اللغات، خبر أن، واسمها: التأويل]

في لسان المسلمين 
بعد نزول القرآن وانتشار الاسلام، 
وان الذي يريده القرآن من لفظ التأويل 
فيما ورد فيه من الآيات 
ليس من قبيل المعنى والمفهوم.
وقد نشأ في هذه الاعصار مسلك جديد 
في التفسير 
وذلك أن قوما من منتحلي الاسلام 
في اثر توغلهم في العلوم الطبيعية 
وما يشابهها 
المبتنية على الحس والتجربة، 
والاجتماعية المبتنية على تجربة الاحصاء، 
مالوا إلى مذهب الحسيين من فلاسفة الأوروبة سابقا، أو إلى مذهب أصالة العمل 
(لا قيمة للادراكات الا ترتب العمل عليها بمقدار يعينه الحاجة الحيوية بحكم الجبر).
فذكروا: 
ان المعارف الدينية 
لا يمكن أن تخالف الطريق الذي تصدقه العلوم 
وهو أن: 
(لا أصالة في الوجود إلا للمادة وخواصها المحسوسة) فما كان الدين يخبر عن وجوده مما يكذب العلوم ظاهره كالعرش والكرسي واللوح والقلم يجب أن يؤل تأويلا.
وما يخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجه بالقوانين المادية.
وما يتكئ عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوة والرسالة والإمامة وغير ذلك، 
إنما هي أمور روحية، 
والروح مادية ونوع من الخواص المادية، 
والتشريع نبوغ خاص اجتماعي 
يبني قوانينه على الأفكار الصالحة، 
لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي.
ذكروا: 
أن الروايات، لوجود الخليط فيها لا تصلح للاعتماد عليها، 
إلا ما وافق الكتاب، 
وأما الكتاب فلا يجوز أن يبنى في تفسيره على الآراء والمذاهب السابقة 
المبتنية على الاستدلال من طريق العقل 
الذي أبطله العلم بالبناء على الحس والتجربة، 
بل الواجب أن يستقل بما يعطيه القرآن من التفسير إلا ما بينه العلم.
هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه، 
من اتباع طريق الحس والتجربة، 
فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير، 
ولا كلام لنا هاهنا في أصولهم العلمية والفلسفية التي اتخذوها أصولا وبنوا عليها ما بنوا.
وإنما الكلام في أن ما اوردوه على مسالك السلف من المفسرين 
(أن ذلك تطبيق وليس بتفسير) 
وارد بعينه على طريقتهم في التفسير، 
وإن صرحوا أنه حق التفسير 
الذي يفسر به القرآن بالقرآن.
ولو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئا، 
فما بالهم يأخذون الانظار العلمية مسلمة لا يجوز التعدي عنها؟ 
فهم لم يزيدوا على ما أفسده السلف اصلاحا.
وأنت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد: 
ان الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص، 
وهو تحميل ما انتجه الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات، 
فتبدل به التفسير تطبيقا 
وسمي به التطبيق تفسيرا، 
وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات، 
وتنزيل عدة من الآيات تأويلات.
ولازم ذلك 
(كما أومأنا إليه في أوائل الكلام) 
أن يكون القرآن الذي يعرف نفسه 
(بأنه هدى للعالمين 
ونور مبين 
وتبيان لكل شئ) 
مهديا إليه بغيره 
ومستنيرا بغيره 
ومبينا بغيره، 
فما هذا الغير! 
وما شأنه! 
وبماذا يهدي إليه! 
وما هو المرجع والملجأ إذا اختلف فيه! 
وقد اختلف واشتد الخلاف.
وكيف كان فهذا الاختلاف لم يولده اختلاف النظر في مفهوم 
(مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربي) 
الكلمات أو الآيات، 
فإنما هو كلام عربي مبين 
لا يتوقف في فهمه عربي ولا غيره ممن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربي.
وليس بين آيات القرآن 
(وهي بضع آلاف آية) 
آية واحدة ذات اغلاق وتعقيد في مفهومها 
بحيث يتحير الذهن في فهم معناها، 
وكيف! 
وهو أفصح الكلام 
ومن شرط الفصاحة خلو الكلام عن الاغلاق والتعقيد، 

حتى ان الآيات المعدودة من متشابه القرآن 

كالآيات المنسوخة وغيرها، 
في غاية الوضوح من جهة المفهوم، 
وإنما التشابه في المراد منها وهو ظاهر.
وإنما الاختلاف كل الاختلاف في المصداق 
الذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظية 
من مفردها ومركبها، 
وفي المدلول التصوري والتصديقي.
توضيحه: 
ان الانس والعادة (كما قيل) يوجبان لنا ان يسبق إلى أذهاننا عند استماع الألفاظ معانيها المادية أو ما يتعلق بالمادة 
فإن المادة هي التي يتقلب فيها أبداننا وقوانا المتعلقة بها ما دمنا في الحياة الدنيوية، 
فإذا سمعنا ألفاظ الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والرضا والغضب والخلق والامر 
كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات المادية لمفاهيمها.
وكذا إذا سمعنا ألفاظ السماء والأرض واللوح والقلم والعرش والكرسي والملك وأجنحته والشيطان وقبيله وخيله ورجله إلى غير ذلك، 
كان المتبادر إلى أفهامنا مصاديقها الطبيعية.
وإذا سمعنا: 
إن الله خلق العالم وفعل كذا وعلم كذا وأراد أو يريد أو شاء وأو يشاء كذا قيدنا الفعل بالزمان حملا على المعهود عندنا.
وإذا سمعنا نحو قوله: 
(ولدينا مزيد) الآية 
وقوله: 
(لاتخذناه من لدنا) الآية
وقوله: 
(وما عند الله خير) الآية. 
وقوله: 
(إليه ترجعون) الآية 
قيدنا معنى الحضور بالمكان.
وإذا سمعنا نحو قوله: 
(إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها) الآية. أو قوله:
(ونريد ان نمن) الآية 
أو قوله: 
(يريد الله بكم اليسر) الآية 
فهمنا: أن الجميع سنخ واحد من الإرادة، 
لما إن الامر على ذلك فيما عندنا، 
وعلى هذا القياس.
وهذا شأننا في جميع الألفاظ المستعملة، 
ومن حقنا ذلك، 
فإن الذي أوجب علينا وضع ألفاظ إنما هي الحاجة الاجتماعية إلى التفهيم والتفهم، 
والاجتماع إنما تعلق به الانسان ليستكمل به في الافعال المتعلقة بالمادة ولواحقها، 
فوضعنا الألفاظ علائم لمسمياتها 
التي نريد منها غايات وأغراضا عائدة إلينا.
وكان ينبغي لنا ان نتنبه: 
أن المسميات المادية محكومة بالتغير والتبدل بحسب تبدل الحوائج في طريق التحول والتكامل 
كما أن السراج أول ما عمله الانسان كان اناء فيه فتيلة وشئ من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضائة به في الظلمة، 
ثم لم يزل يتكامل حتى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائي 
ولم يبق من اجزاء السراج المعمول أولا الموضوع بإزائه لفظ السراج شئ ولا واحد.
وكذا الميزان المعمول أولا، 
والميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلا.
والسلاح المتخذ سلاحا أول يوم، 
السلاح المعمول اليوم 
إلى غير ذلك.
فالمسميات بلغت في التغير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتا وصفة والاسم مع ذلك باق، وليس إلا لان المراد في التسمية 
إنما هو من الشئ غايته، 
لا شكله وصورته، 
فما دام غرض التوزين او الاستضائة أو الدفاع باقيا 
كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقيا على حاله.
فكان ينبغي لنا ان نتنبه 
أن المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض، 
لا جمود اللفظ على صورة واحدة، 
فذلك مما لا مطمع فيه البتة، 
ولكن العادة والانس منعانا ذلك، 
وهذا هو الذي دعى المقلدة من أصحاب الحديث من الحشوية والمجسمة ان يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير 
وليس في الحقيقة جمودا على الظواهر 
بل هو جمود على العادة والانس في تشخيص المصاديق. 
لكن بين هذه الظواهر أنفسها أمور تبين: 
أن الاتكاء والاعتماد على الانس والعادة في فهم معاني الآيات يشوش المقاصد منها 
ويختل به أمر الفهم 
كقوله تعالى: 
(ليس كمثله شئ) الآية. 
وقوله: 
(لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير). 
وقوله: 
(سبحان الله عما يصفون).
وهذا هو الذي دعى الناس 
أن لا يقتصروا على الفهم العادي والمصداق المأنوس به الذهن 
في فهم معاني الآيات 
كما كان غرض الاجتناب عن الخطأ والحصول على النتائج المجهولة 
هو الذي دعى الانسان إلى أن يتمسك بذيل البحث العلمي، 
وأجاز ذلك للبحث ان يداخل في فهم حقائق القرآن وتشخيص مقاصده العالية، 
وذلك على أحد وجهين، 
أحدهما: 
ان نبحث بحثا علميا أو فلسفيا أو غير ذلك 
عن مسألة من المسائل 
التي تتعرض له الآية حتى نقف على الحق في المسألة، 
ثم نأتي بالآية ونحملها عليه، 
وهذه طريقة يرتضيها البحث النظري، 
غير أن القرآن لا يرتضيها كما عرفت، 
وثانيهما: 
ان نفسر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخص المصاديق ونتعرفها بالخواص التي تعطيها الآيات، 
كما قال تعالى:
(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) الآية. 
وحاشا أن يكون القرآن تبيانا لكل شئ ولا يكون تبيانا لنفسه، 
وقال تعالى: 
(هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) الآية. 
وقال تعالى: 
(وأنزلنا إليكم نورا مبينا) الآية. 
وكيف يكون القرآن هدى وبينة وفرقانا ونورا مبينا للناس في جميع ما يحتاجون ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشد الاحتياج! 
وقال تعالى: 
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) الآية. 
وأي جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه! 
وأي سبيل اهدى إليه من القرآن!.
والآيات في هذا المعنى كثيرة سنستفرغ الوسع فيها في بحث المحكم والمتشابه في أوائل سورة آل عمران.
ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي علمه القرآن وجعله معلما لكتابه 
كما يقول تعالى:
(نزل به الروح الأمين على قلبك) الآية. 
ويقول: 
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) الآية. 
ويقول: 
(يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) الآية. 
وعترته وأهل بيته الذين أقامهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا المقام في الحديث المتفق عليه بين الفريقين: 
(إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض). 
وصدقه الله تعالى في علمهم بالقرآن، 
حيث قال عز من قائل: 
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). 
وقال: 
(إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) الآية 
وقد كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل إلينا من اخبارهم في التفسير. 
وسنورد ما تيسر لنا مما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل بيته في ضمن أبحاث روائية في هذا الكتاب، 
ولا يعثر المتتبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الآية بحجة نظرية عقلية ولا فرضية علمية.
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: 
(فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، 
فإنه شافع مشفع وماحل مصدق، 
من جعله امامه قاده إلى الجنة، 
ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، 
وهو الدليل يدل على خير سبيل، 
وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل 
وهو الفصل ليس بالهزل، 
وله ظهر وبطن، 
فظاهره حكمة وباطنه علم، 
ظاهره انيق وباطنه عميق، 
له نجوم وعلى نجومه نجوم، 
لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه 
فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، 
ودليل على المعروف لمن عرف النصفة، 
فليرع رجل بصره، 
وليبلغ الصفة نظره ينجو من عطب ويخلص من نشب، فإن التفكر حياة قلب البصير، 
كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، 
يحسن التخلص ويقل التربص). 
وقال علي عليه السلام يصف القرآن على ما في النهج: 
(ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض) الخطبة.
=====================
هذا هو الطريق المستقيم والصراط السوي 
الذي سلكه معلمو القرآن وهداته 
صلوات الله عليهم.
وسنضع ما تيسر لنا بعون الله سبحانه من الكلام على هذه الطريقة في البحث عن الآيات الشريفة في ضمن بيانات، 
قد اجتنبنا فيها عن أن نركن 
إلى حجة نظرية فلسفية 
أو إلى فرضية علمية، 
أو إلى مكاشفة عرفانية.
واحترزنا فيها عن أن نضع إلا 
نكتة أدبية يحتاج إليها فهم الأسلوب العربي 
أو مقدمة بديهية أو عملية 
لا يختلف فيها الافهام.
وقد تحصل من هذه البيانات 
الموضوعة على هذه الطريقة من البحث 
استفراغ الكلام فيما نذكره:
(1) المعارف المتعلقة بأسماء الله سبحانه وصفاته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والوحدة وغيرها، 
وأما الذات فستطلع أن القرآن يراه غنيا عن البيان.
(2) المعارف المتعلقة بافعاله تعالى من الخلق والامر والإرادة والمشيئة والهداية والاضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط، 
إلى غير ذلك من متفرقات الافعال.
(3) المعارف المتعلقة بالوسائط الواقعة بينه وبين الانسان 
كالحجب واللوح والقلم والعرش والكرسي والبيت المعمور والسماء والأرض والملائكة والشياطين والجن وغير ذلك.
(4) المعارف المتعلقة بالانسان قبل الدنيا.
(5) المعارف المتعلقة بالانسان في الدنيا 
كمعرفة تاريخ نوعه 
ومعرفة نفسه 
ومعرفة أصول اجتماعه 
ومعرفة النبوة والرسالة والوحي والالهام والكتاب والدين والشريعة، 
ومن هذا الباب مقامات الأنبياء المستفادة من قصصهم المحكية.
(6) المعارف المتعلقة بالانسان بعد الدنيا، 
وهو البرزخ والمعاد.
(7) المعارف المتعلقة بالأخلاق الانسانية، 
ومن هذا الباب ما يتعلق بمقامات الأولياء في صراط العبودية من الاسلام والايمان والاحسان والاخبات والاخلاص وغير ذلك.
وأما آيات الاحكام، فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه.
وقد أفاد هذه الطريقة من البحث ارتفاع التأويل بمعنى الحمل على المعنى المخالف للظاهر من بين الآيات، 
وأما التأويل بالمعنى الذي يثبته القرآن في مواضع من الآيات، 
فسترى أنه ليس من قبيل المعاني.
ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية نورد فيها ما تيسر لنا ايراده من الروايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين 
من طرق العامة والخاصة، 
وأما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة والتابعين، 
فإنها على ما فيها من الخلط والتناقض 
لا حجة فيها على مسلم.
وسيطلع الباحث المتدبر في الروايات المنقولة عنهم عليه السلام، 
ان هذه الطريقة الحديثة التي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب، 
أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلموه سلام الله عليهم.
ثم وضعنا أبحاثا مختلفة، 
فلسفية وعلمية وتاريخية واجتماعية وأخلاقية، 
حسب ما تيسر لنا من البحث، 
وقد آثرنا في كل بحث قصر الكلام على المقدمات المسانخة له، من غير تعد عن طور البحث.
نسأل الله تعالى السداد والرشاد 
فإنه خير معين وهاد 
الفقير إلى الله:     
محمد حسين الطباطبائي 
[١٤ = 35]

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفسير الميزان| الطباطبائي| سورة الفاتحة

في ظلال القرآن | سيد قطب| المقدمة